Servicios
Descargas
Buscar
Idiomas
P. Completa
Madḫal ilà l-munāẓarāt ad-dīniyya bi-l-maġrib al-islāmī [“Introducción a las polémicas religiosas en el occidente islámico”]
آسية الكنوني
آسية الكنوني
Madḫal ilà l-munāẓarāt ad-dīniyya bi-l-maġrib al-islāmī [“Introducción a las polémicas religiosas en el occidente islámico”]
Al-Andalus Magreb, no. 23, pp. 59-72, 2016
Universidad de Cádiz
resúmenes
secciones
referencias
imágenes

ملخص: يتغيى هذا المقال الذي نعده مجرد مدخل تاريخي الوقوف على أسباب انتشار المناظرة الدينية بالغرب الإسلامي وعلى رأس هذه الأسباب التلاقح الفكري والتعدد الديني بالأندلس، وكذا هجرة الثقافة المشرقية رجالا وكتبا إلى إسبانيا الإسلامية؛ مما أتاح المجال رحبا لمناظرة العلماء بعضهم البعض اشتركوا في الملة أو اختلفوا.

الكلمات المفتاحية: المناظرة,الغرب الإسلامي,المذاهب والعقائد.

Resumen: : “Introducción a las controversias religiosas en el occidente islámico”. Se propone este artículo, que presentamos como una mera introducción histórica, indagar sobre las causas de la difusión por el occidente islámico del tema de la controversia religiosa, cuyas más importantes consecuencias fueron la mutua fecundación y la pluralidad religiosa en al-Andalus, así como la emigración de la cultura oriental, hombres tanto como libros, hacia la España islámica.

Palabras clave: Controversia, occidente islámico, doctrinas y escuelas jurídicas.

Abstract: : “Introduction to Religious Controversy in the Islamic West”. This paper, which should be considered as a mere historical introduction, aims to look into the reasons for the spread of religious controversy in the Islamic West, and also its most important consequences: mutual fecundation and religious plurality in al-Andalus, as well as a migration movement of both men and books from the East culture towards Islamic Spain.

Keywords: Controversy, Islamic West, Religious Communities and Schools.

Carátula del artículo

Artículos

Madḫal ilà l-munāẓarāt ad-dīniyya bi-l-maġrib al-islāmī [“Introducción a las polémicas religiosas en el occidente islámico”]

آسية الكنوني
(كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط), Marruecos
Al-Andalus Magreb
Universidad de Cádiz, España
ISSN-e: 2660-7697
Periodicity: Anual
no. 23, 2016

Published: 30 January 2016


مدخل إلى المناظرات الدينية بالغرب الإسلامي

آسية الكنوني

(كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط)

لا جدال فيما للمناظرة من أهمية على الكثير من المستويات الدينية والمعرفية والتواصلية؛ فهي مدخل للحوار ولفهم الآخر وفق أطر مرجعية خاض فيها العلماء على مر العصور، ومن بينهم علماء الإسلام الذين قعّدوا لأصولها، وكانت وسيلة هامة لديهم لرد أضاليل المشككين ودفع أوهام المخالفين، وطمأنة قلوب المؤمنين... وقد جعلت منها فرصة اتساع رقعة العالم الإسلامي ضرورة وحاجة؛ وذلك مع مجاورة أهل الملل والنحل.

وقد عبّرت المناظرة في كنهها عن وعي العالِم المسلم وتبحره وسلوكه الحسن، ودفاعه المستميت عن العقيدة الإسلامية السمحة؛ مما أبان عن تسامحه وانفتاحه مع الآخر دون التخلي عن مبادئه.

وإذا كان فن المناظرة قد عرف ولادته في المشرق.. مركز بلاد الإسلام، فإنه تطور في الأندلس باعتبار سياق تاريخي وجغرافي جعل من الغرب الإسلامي بشكل عام والأندلس بشكل مخصوص، بموقعها المنعزل، ومجاورتها للنصارى الذين كانوا دائم التربص بها لإسقاطها في أيديهم؛ جعلها في حاجة ماسة إليها للمجابهة ومقاومة كل أشكال التنصير. فالغرب الإسلامي لم يكن يوما بمعزل عن التيارات العقدية الكبرى التي شهدها المشرق، والتي سرعان ما تحولت إلى المغرب، فشاع الجدل بعد ذلك، وكانت كل المسائل التي تثار في المشرق تجد لها صدى بالغرب الإسلامي.

تعرّف المناظرة في المعاجم العامة بأنها " لغة من النظير أو من النظر بالبصيرة، واصطلاحا هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين شيئين إظهارا للصواب([1])، فالمناظرة لون من القياس بين جانبين اثنين، يعتمد البصيرة لترجيح كفة جانب على جانب آخر من حيث صوابه. ولا تبتعد المناظرات العقدية كثيرا عن هذا التعريف العام، فالمناظرات، أو علم الكلام، كما عرفه ابن خلدون، " يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد"([2]).

وتعود البدايات الحقيقة للمناظرات العقدية في تاريخ الفكر الإسلامي إلى حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي ناظر الكفار والمشركين والمنافقين في العقيدة([3])، على أن هناك من يرى أن عليا بن أبي طالب، كرم الله وجهه، كان أول من تكلم، وذلك لما ناظر الخوارج في قضية الوعد والوعيد، وجادل أهل القدر في المشيئة. وهذا سند المتكلمين من أهل السنة الذين اتخذوا الجدل والمناظرة طريقة للدفاع عن الدين، فإمامهم في هذا هو علي بن أبي طالب([4]).

ورغم ثبوت حجية المناظرة ورسوخ دورها في الدفاع عن الإسلام وحماية العقيدة الإسلامية من كل انحراف عن محجتها البيضاء التي أرساها الرسول، عليه الصلاة والسلام، فإن الباحث في تاريخ المناظرات العقدية يلاحظ بوضوح تأخر ظهور المناظرات بالغرب الإسلامي، قياسا إلى المشرق، ولعل السبب في ذلك راجع بالأساس إلى تأخر انتشار الإسلام في هدا الطرف من العالم العربي الإسلامي، كما يعود الأمر إلى سيادة المدرسة السنية المجتنبة للخوض في المسائل العقدية، والمحافظة على طبيعة الإسلام، كما أخذ من موارده الأصلية. وباختصار، فقد تجنب علماء الحديث والفقهاء الخوض في القضايا العقدية في بداية الأمر عملا بما نهوا عنه، وتجنبا للوقوع في الشبهات، ولكنهم اضطروا، لما فشت البدعة وكثرت المجادلات، وشاعت المناظرات في القدر والذات والصفات الإلهية، ثم في خلق القرآن، أن يشاركوا فيها قصد الرد على المخالفين المبتدعين([5]).

على أن الخريطة العقدية في الغرب الإسلامي لم تكن دائما صافية وخالصة للمدرسة السنية، إذ وجدت إلى جانبها مدارس أخرى ومذاهب مفارقة عملت جاهدة على بسط نفوذها العقدي ونشر مبادئها وأرائها ومعتقداتها، خدمة لأهدافها الفكرية والدينية والسياسية، المعلنة والمسكوت عنها، فكان من اللازم إزاء هذا التعدد والتنافر والتضاد والتضارب في الرؤى والتصورات أن تنشط المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي، وأن تشيع في أوساط الفقهاء والعلماء، وأن تحتل مكانا خاصا في القصور وعند أصحاب القرار، كما كان من اللازم أن يبرز في الغرب الإسلامي رجال ملكوا ناصية الجدل، وتمكنوا من آليات التناظر، وأمكن بفضل جهودهم أن تبرز المدرسة السنية في الغرب الإسلامي في مراحل المشاركة العملية، بالمناظرات والمناقشات والمواقف المضادة الصريحة لكل المخالفين، وفي مقدمتهم من كانت بيدهم السلطة([6]).

ولعل شيوع المذهب المالكي في الغرب الإسلامي، بشقيه المغرب الأدنى والأوسط والأقصى، والأندلس، وانتشار رجال هذا المذهب في ربوع هذا الطرف القصي من خريطة العالم العربي الإسلامي الوسيط، يفسر قلة ما وصلنا من مناظرات عقدية، عكس ما هو عليه الأمر في المشرق، كما يفسر اكتفاء المصادر بالإشارة إلى بعض المناظرات وذكر أطرافها وموضوعاتها، دون تدوين نصوصها، أو الاحتفال بتقييد تفاصيلها، فعلماء أهل السنة محدثون وفقهاء أساسا اشتغلوا برواية الحديث واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ولم يكن لهم اهتمام بإثارة المسائل العقائدية، خلافا للشيعة والخوارج والمعتزلة الذين كان همهم الأكبر الخوض فيها والجدل بها([7]). ولقد روى أهل السنة تصديقا لموقفهم من الجدل، وتأكيدا لرأيهم في المناظرة، جملة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تنهي عن الخوض في القدر أو الجدل في ذات الله تعالى وصفاته، وتدعو إلى عدم مجاراة أهل البدع والأهواء في لغوهم ومهاتراتهم. ففي " سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم والمكالمة معهم والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم (...) قال (عليه السلام): ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم"([8]). وقريب من هذا الحديث النبوي الشريف، قوله عليه السلام: " تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله فتهلكوا "([9]).

تعد المناظرات العقدية لونا من الثراء الذهني الذي مارسته النخبة العالمة بالغرب الإسلامي منذ البدايات المبكرة لظهور الدين الإسلامي الحنيف بهذه الجهة، كما تعد المناظرات، كذلك، نوعا من السلاح الفكري الذي استخدمته هذه النخبة التي مارست نشاطها الثقافي والإعلامي بواسطة المناظرة التي لم يكد الإسلام يستقر بأرض الغرب الإسلامي حتى تكونت حلقاتها، وبرز رجالها، واكتملت موضوعاتها المستمدة من موضوعات وقضايا المناظرات العقدية التي اشتد ساعدها في المشرق، والتي وجدت امتدادها الطبيعي في المجال الجديد الذي انتقل إليه.

وبهذا، فإن الغرب الإسلامي لم يكن بمنأى عما كان يدور في المشرق من خلافات فقهية أو عقائدية، فقد أثيرت بعض المسائل الكلامية منذ أواخر القرن الأول([10])، وقد ذكرت المصادر، تأكيدا لهذا الطرح، أن أبا قبيل المعافيري (ت 128 هـ) الذي دخل إفريقية غازيا مع حسان بن النعمان وشهد معه المغازي([11])، قد سئل عن القدر فأجاب: " لأنا في الإسلام أقدم منه، فدين في الإسلام أنا أقدم منه، لا خير فيه"([12]).

شكل الموقع الجغرافي للغرب الإسلامي على امتداد التاريخ مجالا لتلاقح الحضارات، ولتجمع الأعراق والأجناس واصطدام الديانات، ولم تكن هذه الرقعة الجغرافية بمعزل عن مختلف التيارات الفكرية والسياسية والعقدية الرائجة في حوض البحر الأبيض المتوسط. ومع انتشار الإسلام في الغرب الإسلامي وشيوع ديانة التوحيد نشط المشرق باعتباره مهبط الوحي وموطن الرسول عليه السلام، ومنطلق أفواج الوافدين من فقهاء وعلماء وقادة، في مد الغرب الإسلامي بمؤثرات خاصة شملت مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والعقدية.

على أننا نذهب إلى أن شروط المناظرات العقدية بالغرب الإسلامي قد استمدت من المشرق، وإن تلونت بألوان غرب إسلامية، واصطبغت بأصباغ محلية، فغني عن التذكير أن وفودالنازحين من المشرق باتجاه المغرب لم تنقطع، إذ شكل الغرب الإسلامي ملاذا آمنا للمضطهدين عقديا وسياسيا، والذين اعتبروا " المغرب أرض بور"([13]) لا تزال قابلة لكل تشكيل عقدي وسياسي.

ولقد حمل كثير من الوافدين المشارقة إلى أرض الغرب الإسلامي خلافاتهم السياسية والعقدية التي استعرت حلقاتها من جديد، واشتدت المناظرات العقدية بين الفرق المختلفة، فرغم سيادة مذهب أهل السنة والجماعة في الغرب الإسلامي، فإن المذاهب الأخرى، والمعتقدات المغايرة قد وجدت لنفسها الذائبة للأفكار والمذاهب والرجال بين المشرق والمغرب، وما صاحب هذا الانتقال من تلاقح وإخصاب فكري وعقدي، وما نتج عن هذا من تأثير وتأثر، ويمكن أن نأخذ كمثال على ذلك الاعتزال الذي " ما كان يكتب له الظهور والانتشار بإفريقية لولا بعض الأقوام قدموا من الشام ومن العراق، خصوصا مع الولاة وفي ظروف مختلفة، فاحتلوا الوظائف الإدارية والعسكرية وسواها من المصالح العليا في الدولة، هؤلاء جميعا كانوا من الأسر العراقية التي تنتسب من بعيد أو قريب إلى الجنس الفارسي([14]).

لم يكن الغرب الإسلامي، إذن، بمعزل عن التيارات العقدية الكبرى التي شهدها المشرق، والتي سرعان ما تحولت إلى المغرب، فشاع الجدل بعد ذلك، وكانت كل المسائل التي تثار في المشرق تجد لها صدى بالغرب الإسلامي،"مثل مسائل الإيمان والذات والصفات، والتشبيه، وخلق القرآن، وكان الخائضون فيها؛ الخوارج، صفرية وإباضية، والمعتزلة([15])، دون أن ننسى أهل السنة الذين وجدوا أنفسهم، في ظل هذه الحركة الفكرية والعقدية الغنية، مجبرين على الخوض مع الخائضين، والتناظر مع المتناظرين، " فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل، فتكون بذلك علم الكلام([16]) في الغرب الإسلامي كما انتشر في المشرق.

على أن العامل الداخلي المتكون من خيوط الدين والسياسة والفكر لم يكن العامل الوحيد في قدح زناد المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي الذي شكل الطرف القصي من خريطة العالم العربي الإسلامي، فكان على احتكاك دائم بحضارات أخرى، وديانات مغايرة، وآداب مفارقة، خاصة في الأندلس التي كانت في كثير من محطاتها التاريخية مزيجا متسامحا سياسيا، ومتصارعا ومتناظرا عقديا بين المسلمين واليهود والنصارى، وتحدثنا كتب التاريخ بكثير من الإسهاب عن هذا التعايش بين المسلمين وبين غيرهم من معتنقي الديانات الأخرى الذين لم يمثلوا قط جالية منعزلة ومهمشة ومقصية، ولكن اليهود والنصارى، على السواء، شكلوا دائما جزء من النسيج الاجتماعي للدولة الإسلامية في الأندلس، ومكونا من مكوناتها الفكرية الثقافية.

وكل هذا "سيخلق تناظرا فكريا واسعا بين اليهود والمسلمين الذين كان لهم سبق الحديث في المسائل العقدية، ومناظرات ابن حزم لبعض اليهود تعبير واضح عن عواقب هذا الاختلاط اليهودي الإسلامي، كما هو تعبير عن مساهمة التيارات الفكرية الأخرى في ازدهار المناظرات الأندلسية([17]).

وتمثل رسالة ابن حزم في الرد على ابن النغريلة اليهودي([18]) شاهدا على ما كان لليهود في الأندلس من مكانة اجتماعية مهمة، وحرية في إبداء الرأي والإعلان عن المعتقد، فابن النغزيلة هذا كان وزيرا لباديس بن حبوس، كما " كان هذا اليهودي من أهل الأدب والشعر، فدام أمره كذلك إلى أن هلك وترك ابنا له اسمه يوسف لم يعرف ذلة الذمة ولا قذر اليهود([19]).

وتذكر المصادر أنه وجدت لابن النغزيلة عند وفاته سنة تسع وخمسين وأربعمائة " فيما وجد له خزانة جليلة من كتب أشتات العلوم الإسلامية"([20])، وحسبنا هذا دليلا على مدى الاحتكاك والتفتاعل والجدل بين الديانتين الإسلامية واليهودية في الأندلس، ولا شك أن هذا الاحتكاك قد ترك أثره واضحا على حركة المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي التي امتدت دائرتها واتسعت حلقاتها.

ولا شك أن هذا الاحتكاك العقدي الذي شهده الغرب الإسلامي، والأندلس تحديدا، سيسهم في خلق نشاط تناظري غني بين الفرق والعقائد المختلفة، كما سيسهم هذا النشاط في إغناء الحركة الفكرية والثقافية في الغرب الإسلامي الذي مثل محورا للاتصال " بين العقائد اليهودية المسيحية، والإسلامية، حيث إن مصنفات المؤلفين المسلمين واليهود استخدمت في العصر المذكور (العصر الوسيط) بوصفها ذات أهمية مدرسية علمية عالية القيمة بالنسبة للاهوتيين الكاثوليك، وبدورها ترجمت مؤلفات اللاهوتيين الكاثوليك إلى العبرية، واستخدمت في المجادلات والمناظرات الكلامية([21]).

ارتبطت المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي أشد الارتباط بالاحتكاك المستمر والصراع الدائم بين الفرق العقدية في الغرب الإسلامي، وكما رأينا ذلك، لم تكن غير وجه من وجوه التأثير والتأثر المتبادل بين المشرق والمغرب، أو بين الغرب الإسلامي وبين طوائف النصارى واليهود في الأندلس خاصة.

كما كانت المناظرات العقدية كذلك ذات ارتباط وثيق بالعامل السياسي، إذ غذت الحركات السياسية المختلفة حركة المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي ووجهتها لخدمة طروحاتها ورعاية مصالحها، ووظفت رجالات المناظرة للدفاع عن مذاهبها، والانتصار لمعتقداتها([22]).

لم يشكل الغرب الإسلامي دائما وحدة سياسية وعقدية منسجمة، ولكنه، بالمقابل، شهد نشوء دول ذات انتماءات سياسية مختلفة، وعرف ظهور دعوات عقائدية ومذهبية متضاربة ومتباينة كثيرا ما كانت تستعر بينها الصدامات العسكرية، وتشتعل بين دعاتها المناظرات العقدية المعضدة أو المناقضة لهذا الاتجاه أو ذاك.

وفي خضم هذا الصراع والتطاحن والتجاذب، توجه الساسة والقادة وأولوا الأمر إلى استقطاب الفقهاء والعلماء، كما عملوا على تشجيع حركة التناظر، ردا لحجج الخصوم، ودحضا لمعتقداتهم ومذاهبهم، وكذا دفعا لتأثير دعواتهم العقدية المناوئة على نفوس العامة وعقيدتهم.

ولما كانت المناظرات العقدية ذات ارتباط وثيق بالعامل السياسي، فقد توجهت المناظرات في الغرب الإسلامي، في كثير من محطاتها، إلى خدمة الساسة، ونافحت عن مصالحهم، وتبنت طروحاتهم، ودافعت عن وجهات نظرهم، وخدمت مصالحهم ورعتها.

ولما كان الغرب الإسلامي قد عرف من الاضطراب والتقلب والصراع السياسي والعقدي ما نأت به كتب التاريخ، فقد تمخض عن هذه الأجواء المتخمة بالاضطراب نشاط تناظري ثري، فنشطت المناظرات بين أصحاب المذاهب العقدية المختلفة، وتهيأت الأجواء الملائمة لرجال المناظرة لإسماع كلمتهم، والإفصاح عن قدراتهم في التناظر والجدل، ويمكن أن نأخذ كمثال في هذا السياق، الأمويين الذين اتخذوا " لمحاربة الثقافة الشيعية أولو الفصاحة في اللسان والبلاغة في المنطق جانب الحجة والنظر لبصرهم بالرد على أصحاب المذاهب([23]).

ولا شك أن الأمويين لم يكونوا نسيج وحدهم في هذا الاتجاه، إذ أن كل تنظيم سياسي قد عمل جاهدا على تأمين جانب الدعاية السياسية والعقدية لفائدته، ضمانا للاستمرار والوحدة، وحفاظا على المصالح الخاصة والعامة، وهو الشيء الذي اصطدم في كثير من الأحيان بمجموعة من العوامل المعارضة، مما أدى إلى شيوع المناظرة وبروز رجالها.

والواقع أنه يصعب فصل الديني والفكري والثقافي عامة عن السياسي فيما يخص ظهور المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي التي استمدت وجودها من كل الروافد والمؤثرات.

ويؤكد الباحثون، تعضيدا لهذا الطرح، أن الفاطميين لما أنشأوا " دولتهم بالمغرب، ودعوا إلى مذهبهم، زاد اهتمام الأمويين بالسنة عامة، وبمذهب مالك خاصة، وقاموا بدور كبير في الدعاية للمذهب المالكي في الأندلس والمغرب([24])، وقد اتخذت هذه الدعاية في كثير من محطاتها المناظرات العقدية سبيلا إلى الرد والمواجهة.

على أن عامل الاستقطاب السياسي لم يكن العامل الوحيد في إذكاء جذوة المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي، فقد كان كذلك للانفتاح السياسي وشيوع الحريات الفكرية والعقدية دور مهم وإيجابي في تحريك رحى المناظرات العقدية بين الاتجاهات المختلفة والتيارات الفكرية والعقائدية المختلفة، ولا شك أن أمر هذه النظريات عبارة عن أرستقراطية فكرية تلقتها فئة خاصة من الناس والعلماء... عرفوا بالجرأة والتحرر الفكري، فعمدوا إلى نشرها من قبل أولي الأمر ومؤيدين([25])، ويمكن أن نستدل على ذلك بعبد الرحمان بقي بن مخلد الأندلسي([26]) (200- 276 هـ) الذي تعصب عليه الفقهاء لإنكاره مذهب أهل العصر، " فدفعهم عنه أمير المسلمين محمد بن عبد الرحمان المرواني، واستنسخ كتبه، وقال لبقي انشر علمك([27]). كما يمكن أن نستشهد في هذا الإطار بما عرف عن الدولة الأغلبية في إفريقية من تسامح وانفتاح أدى إلى التعدد العقدي، ذلك أن نظام هذه الدولة قد قام، كما يذكر المؤرخون، على " تبني كل المذاهب الفكرية وعلى تشجيعها ونشرها، حتى شاع في عهدها الاعتزال، ووجد الخوارج من صفرية وإباضية مجالا للظهور ونشر أرائهم، هذا إلى جانب المذهب الحنفي، مذهب الخلافة العباسية آنداك، وظهر الأحناف لانتحال الأمراء ومن والاهم من ذوي السلطان مذهبهم، فأضحى المذهب الحنفي، مذهب النخبة، منافسا للمذهب المالكي مذهب الأمة وعامة الشعب([28]).

وأمام هذا الوجود السخي لكل هذه الأطراف والتيارات والاتجاهات في زمان ومكان معينين، فقد كان من الضروري أن تنتشر المناظرات العقدية في الغرب الإسلامي وتشيع حلقاتها، ويظهر رجالها، دفاعا عن عقيدة معينة، أو انتصارا لمذهب معين، أو دفعا لحجة خصم باطلة ودحضا لأدلة واهية.

وقد ساهمت جملة عوامل في انتشار ثقافة المناظرة من بينها على الخصوص:

1- وفود الرجال :

لم تتأخر الوفود المتوالية للرجال من المشرق باتجاه أرض الغرب الإسلامي كثيرا بعد ظهور الدين الإسلامي وانتشاره في الآفاق، فالموجات الأولى لهذه الوفود قد قدمت، كما تذكر ذلك المصادر المختلفة، في عصر الفتوح الأولى بدء بخلافة عمر بن الخطاب، عندما كان عمرو بن العاص على رأس الإدارة المصرية، وأخذت طلائع الحاميات العربية تتسرب إلى ليبيا، وتتابعت الفتوح بعد ذلك على مراحل عبر الشمال الإفريقي، فالسكان العرب في هذه الفترة كانوا من الجيش. لكن النصف الثاني من القرن الأول بدأ يشهد توافد بعض المثقفين والدعاة([29]) الذين حملوا للغرب الإسلامي، عدا اللغة والتقاليد والعادات المشرقية، أرائهم الفكرية، واتجاهاتهم العقدية، وخلافاتهم المذهبية، فكان من اللازم أن يبحث كل واحد منهم في مهجره الجديد على سند ونصير من أهل المنطقة.

وأمام هذه الوفود المتوالية للقاصدين من المشارقة، زرافات ووحدانا، أرض الغرب الإسلامي، فقد أصبحت هذه الجهة من العالم العربي الإسلامي"مرآة تنعكس عليها التيارات المشرقية بكل ما كانت تحمل معها من أفكار ومبادئ وعادات وتقاليد وممارسات([30]). فما يكاد يظهر فيه مذهب أو رأي حتى يجد طريقه نافذا نحو الغرب الإسلامي الذي تشهد الوقائع التاريخية أنه كان على الدوام محجا مفضلا للأصوات والأفكار، ومقصدا للمذاهب والمعتقدات، التي نجح بعضها نجاحا سياسيا أثمر قيام بعض الدويلات هنا وهناك، بينما انحسر بعضها الآخر على مستوى أشخاص معينين وأفراد دون سواهم، انتهى بانتهائهم، ومات بموتهم.

وكانت غالبية الصحابة والتابعين الأوائل الذين أتوا إفريقية، والغرب الإسلامي عامة، على جانب كبير من العلم والثقافة والتقوى والصلاح([31])، فبثوا علمهم وسط الخاصة والعامة، وقاموا بمهمتهم على أفضل وجه، فتم على أيديهم إسلام بقية البربر وتعريب البلاد، وكان لهم دور كبير في نشر الإسلام وبثه([32]).

على أن وفود الرجال من المشرق باتجاه الغرب الإسلامي لم تبق دائما رهينة مبادرات فردية وخيارات شخصية، أو مرتبطة بعناصر الجيوش الفاتحة، إذ أن هذه الوفود سرعان ما نظمت وأخذت إطارا رسميا تمثل في شكل بعثات منظمة، كالبعثة التي أوفدها عمر بن عبد العزيز إلى المنطقة، بعدما "لاحظ أن شيوع الإسلام لم يكن إلا أمرا سطحيا لا يقيها كيد الكائدين، ولا يحقق فيها ما يشد أزر الدين([33])، فبعث " عشرة من التابعين أهل علم وفضل، منهم عبد الرحمان بن نافع، وسعد بن مسعود التجيبي، وغيرهما([34]) من الفقهاء من أهل الصلاح والتقوى.

ولقد كان من الطبيعي أن يجري هؤلاء الصحابة والتابعون الأوائل الذين قدموا أرض إفريقية من الاستسلام لله، ولكل ما جاء به كتاب الله، والامتناع عن إثارة أي نقاش أو جدال حوله([35]).

لكن وفود القادمين إلى الغرب الإسلامي من المشارقة لم تكن دائما من ذات الطينة التي كان عليها الصحابة والتابعون الأوائل، رضوان الله عليهم، فمع تطور الحياة السياسية في المشرق وما رافقها من تعقيد مذهبي انتهى بظهور عدة فرق متناحرة سياسيا، ومتصارعة عقديا، فقد تطلعت هذه الفرق، سواء في حال انتصارها على خصومها، أو في حال اندحارها وانهزامها عسكريا، إلى أفق للامتداد والانتشار خارج حدود المركز الذي مثله الحجاز، والعراق بالأساس، وقد كان الغرب الإسلامي لبعده الجغرافي ملاذا مفضلا للاجئين هربا من لفح الصراعات السياسية وفتن الخلافات العقدية المستعرة بالمشرق، أو بحثا عن (أرض بور)([36]) لا تحتاج إلا إلى صاحب البذر الذي يقصدها ببذره المذهبي والعقدي.

ويلاحظ المتتبع الدقيق لظهور المذاهب العقدية في الغرب الإسلامي بجلاء أن هذه المذاهب قد انتقلت إليه من المشرق بواسطة وفود الرجال الذين حملوا معهم من المشرق صراعاتهم المذهبية، ونقلوا إلى مهجرهم الجديد آراءهم الكلامية، فكانت هذه الوفود، بالتالي، مصدرا مهما وفاعلا من مصادر الفكر العقدي في الغرب الإسلامي، كما ساهمت هذه الوفود في ربط خيوط المناظرة والجدل بين الفرق والمذاهب المختلفة التي بدأت في المشرق بنظيرتها في الغرب الإسلامي التي لم تكن غير امتداد طبيعي لها ومجال رحب لانتشارها وتطورها، وبين ظهورها و تبنيها في الغرب الإسلامي. فإذا ما تتبعنا ظهور الفرق والمذاهب العقدية في الغرب الإسلامي، فسنلاحظ أن الإباضية، مثلا، قد انتشرت بسرعة في إفريقية، "منذ مطلع القرن الثاني هـ/ الثامن م، وكان للداعية سلمة بن سعيد الذي دخل القيروان صحبة عكرمة دور كبير في نشر المذهب الإباضي، وأثمرت جهوده سلمة فانتشرت الآراء الإباضية الداعية إلى المساواة والعدالة([37])، والتي وقعت في آذان ونفوس أهل الغرب الإسلامي موقعا حسنا فأقبلوا عليها.

2- الرحلــة:

يتفق الباحثون في تاريخ الغرب الإسلامي عامة على شغف أهله بالرحلة إلى المشرق لزيارة بقاعه المقدسة أولا، وللتواصل مع أهله، وللأخذ عن علمائه، وللاغتراف من ينابيع العلم والمعرفة، وكذلك للتجارة وغيرها، حتى لقد أصبحت الرحلة بكل صنوفها وأغراضها، وخاصة منها الرحلة العلمية، ظاهرة تستوقف العلماء، وتلفت انتباه الباحثين والدارسين الذين أسهبوا في الحديث عن دوافعها وبواعثها التي تراوحت في إجاباتهم بين بواعث شخصية ترتبط بعوامل فردية خاصة لم تستطع أن تلغي العامل الموضوعي المتعلق بالمحيط السياسي، والمرتبط بالمجال الثقافي والاجتماعي العام.

والواقع، أن الباعث الفردي حاضر بقوة وراء الرحلات الغرب إسلامية إلى المشرق، خاصة منها الرحلات العلمية، وقد أكد هذا من قبل أحمد المقري في عمله الموسوعي، نفح الطيب، قائلا في معرض حديثه عن حرص أهل الغرب الإسلامي، وخاصة الأندلسيين منهم، على استكمال مسارهم التعليمي عن طريق الرحلة للقاء العلماء والفقهاء بالمشرق، وبدلهم في سبيل ذلك كل ممكن: " فالعالم منهم بارع لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده حتى يعلم"([38]).

وأمام هذا المد من وفود الراحلين من أهل الغرب الإسلامي إلى المشرق، لم يعد مستغربا أن تزخر كتب التراجم والطبقات وكتب التاريخ العام بأسماء الرجال الذين شدوا الرحال باتجاه المشرق([39])، وقد فتحت هذه الرحلات أمام وفود الميممين من علماء وفقهاء الغرب الإسلامي دروبا من المعرفة المتنوعة، وأطلعتهم على مجريات الحياة العقدية الغنية المحتدمة بالمشرق. وقد"رحل للمشرق نفر كبير من الفقهاء والعلماء استجابة لفريضة الحج والعلم، فأصبح الشرق محجا لرحلات الأندلسيين الثقافية، يقصدونه للقاء الأئمة بالمدينة ومكة ومصر، وللأخذ عنهم في الفقه والحديث، فأسهموا بذلك في تنشيط العلوم الدينية بعد عودتهم([40]) إلى أوطانهم. ولعل هذا الاختيار الواعي للمدينة ومكة كمحج علمي للرحالة من علماء وفقهاء الغرب الإسلامي، قد وجه الحياة العقدية وشكلها بهذا الطرف من العالم العربي الإسلامي، فابن خلدون، مثلا، يرجع سيادة المذهب المالكي في الغرب الإسلامي إلى مسار الرحلة العلمية التي اتخذت الحجاز هدفا ومقصدا علميا دون ما سواه من الجهات، يقول:"وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة، وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك، وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس([41]).

وقد ذهب المقري أيضا هذا المذهب في تفسير رجحان كفة المذهب المالكي في الغرب الإسلامي، وحلوله محل مذهب الأوزاعي، يقول: "واختلفوا في السبب المفضي لذلك، فذهب الجمهور إلى أن سببه رحلة علماء الأندلس إلى المدينة، فلما رجعوا إلى الأندلس وصفوا فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره فأعظموه([42]).

إن ما يهمنا من إيراد هذه الآراء التي لها من الحجية ما يجعلها عمدة في بابها، هو التأكيد الشامل على الدور الفاعل للرحلة العلمية في رسم وتشكيل الخريطة العقدية في الغرب الإسلامي، وإجماع الباحثين على هذا الدور وإقرارهم بأهميته وقوته، إذ اعتبرها كثير من الدارسين، قديما وحديثا، مصدرا مهما من مصادر الفكر العقدي في الغرب الإسلامي وقناة سخية لم تتوان لحظة في إمداد هذا الفكر بمستجدات الساحة العقدية في المشرق. و"هكذا نرى أن المغرب الإسلامي لم يكن غريبا عما كان يموج به المشرق من أفكار كلامية فلسفية، وكان أهل الشمال الإفريقي يترددون في رحلات متعددة على أرض المشرق، يزورون أرض الحجاز للحج، ويتوجهون إلى مصر والعراق للدرس والتحصيل، وللتجارة أحيانا([43])، الشيء الذي مكنهم من الاتصال بالأفكار والمذاهب الرائجة في الشرق والتفاعل معها. لقد مكنت رحلات العلماء إلى الشرق من زرع كل المذاهب العقدية في أوساط مختلفة من أهل الغرب الإسلامي، كما مكنتهم من الإطلاع على ما يجري من مناظرات وجدل بين المتكلمين المشارقة، بيد أن ما نقله أهل الشمال الإفريقي عن المشرق لم يكن محصورا في هذه الآراء الكلامية التي عرفوها من أهل المناظرة والجدل، وبخاصة في العراق... بل إن هذه الآراء الكلامية لم تكن تمثل الآراء الغالبة على أهل الشمال الإفريقي، وكان الذين يناقشون فيها قلة، أما الغالبة العظمى فآثروا أن ينأوا بأنفسهم عن الخوض فيها([44])، وهذا يعني أن المبادرة في الأخذ ببعض المذاهب العقدية في الغرب الإسلامي كانت فردية، إذ ارتبطت بأفراد بعينهم مثلوا النخبة العالمة دون أن تتجاوزهم إلى غيرهم من أهل الغرب الإسلامي الذين كان " خواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم العليا في العلوم([45]).

3- الكتــب:

عرف التاريخ الثقافي والفكري للغرب الإسلامي على امتداده في الزمان والمكان، هجرة دائمة ومتوالية لكل ما كان يصدر في المشرق من كتب ومصنفات ورسائل، سواء منها الأدبية أو الدينية أو غيرها، حتى أن الأمر قد أثار امتعاض كثير من علماء ومثقفي الغرب الإسلامي الذين عابوا على مواطنيهم هذا الحرص على الإطلاع على كل ما كان ينتجه المشرق. يقول ابن بسام الشنتريني في مقدمة كتابه"الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة": "إن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما"([46]). وأمام هذا الرواج والتهافت على الكتب المشرقية، فقد حرص أهل الغرب الإسلامي، من فقهاء وعلماء وحجاج وتجار وغيرهم، على نقل كل ما كان يكتب في المشرق، وجلب كل ما كان يظهر فيه من مؤلفات، وقد كان لبعض التجار"أثر عظيم في إدخال كتب المشرق إلى الأندلس مما تفردوا بنقله، نذكر من هؤلاء التاجر الجزائري زكريا بن بكر بن الأشج التاهرتي المتوفى سنة 393 هـ، فقد دخل الأندلس سنة 326 هـ مع أبيه وأخيه، ورحل فسمع من علماء مصر، ولقي هناك أبا الطيب المتنبي فيما بين سنتي 346 و350 هـ، وأخذ عنه ديوان شعره، وأدخله الأندلس، وعن ابن الأشج انتشر ديوان المتنبي في حياة شاعر الكوفة، ومنهم عبد الله بن مسرة الذي رحل إلى العراق، وأخذ عن مشايخ أهل الاعتزال، وكان ممن نشر مبادئهم خفية في الأندلس، وقد أورث كتبه وعلمه ابنه محمدا الذي كان له أكبر الأثر في الحركة الفكرية الأندلسية، ومنهم علي بن بندار البرمكي البغدادي الذي دخل الأندلس سنة 337 هـ، وكان قد تتلمذ في العراق على ابن المغلس، الفقيه الظاهري، وإليه يرجع جانب من الفضل في نشر ذلك المذهب الذي أصبح ابن حزم حامل لوائه من بعد "([47]).

ولم تنقطع هجرة الكتب المشرقية في شتى العلوم، فأدخل الكرماني ( ت 458 ه) رسائل إخوان الصفا إلى الأندلس لأول مرة، وجلب تاجر عراقي نسخة من كتاب القانون لابن سينا قد بولغ في تحسينها، فأتحف بها أبا العلاء بن زهر تقربا له... كما أدخل بقي بن مخلد كتب الشافعي([48]).

وإلى جانب قيمتها العلمية والمعرفية، فقد شكلت الكتب سلعة نافقة في الغرب الإسلامي، الشيء الذي شجع التجار وحملهم على الحرص على جلب أكبر عدد منها باتجاه المغرب.

وقد كان للحكم المستنصر وراقون بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التأليف([49])، كما كان المظفر صاحب بطليوس جمّاعة للكتب وذا خزانة عظيمة لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة، ومن هذه الكتب كون الموسوعة التي سميت بالكتاب " المظفري"، وجمع أحمد بن عباس الكاتب وزير زهير الفتى كتبا كثيرة حتى قيل إن عددها بلغ أربعمائة ألف([50]). كما نسخ الإباضية لعبد الوهاب بن عبد الرحمان بن رستم آلافا من الكتب برسم مكتبته المعصومة([51]). ولقد شاعت كتب المشارقة بالغرب الإسلامي([52])، واشتغل بها أهله دراسة وشرحا ومعارضة، وردا واختصارا، وهذا شيء يعز على الحصر([53]).

والواقع فإنه يصعب، بل يستحيل، تتبع كل الكتب التي دخلت من المشرق إلى الغرب الإسلامي، لأن ذلك كان يعتبر طبيعيا في ظل الامتداد الجغرافي والبشري للعالم العربي الإسلامي، وكذلك في ظل الانتقال الدائم للرجال بين المشرق والمغرب، ثم إن الغرب الإسلامي في الأطوار الأولى من انتشار الإسلام في ربوعه، كان قبلة للإمدادات الفكرية والعقدية المشرقية، قصد تثبيت الشريعة وترسيخ العقيدة.

Supplementary material
Notes
حاشية
([1]) كتاب التعريفات، علي الجرجاني، مكتبة لبنان. بيروت، ط 1978. 298:1.
([2]) مقدمة ابن خلدون، دار القلم بيروت، الطبعة الأولى، 1978، ص: 458
([3]) انظر نماذج لهذه المناظرات في: رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام لأبي الحسن الأشعري، ضمن كتاب: مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، 1983، عبد الرحمن بدوي 21:1.
([4]) المدارس الكلامية بإفريقية، عبد المجيد بن حمدة، ص: 27، الطبعة الأولى، 1406 هـ ـ 1986 م، مطبعة دار العرب، تونس.
([5]) المدارس الكلامية بإفريقية، ص: 30.
([6]) المدارس الكلامية بإفريقية، ص: 31.
([7]) نفسه، ص: 24.
([8]) اعتقاد أهل السنة، هبة الله اللالكائي، دار طيبة، 1985، 1: 114.
([9]) كتاب العظمة، عبد الله بن محمد الأصبهاني، 1: 215.
([10]) المدارس الكلامية في إفريقية، ص: 45.
([11]) انظر ترجمته في: رياض النفوس، 91:1.
([12]) نفسه.
([13]) الكامل في التاريخ، أبو الحسن ابن الأثير، تحقيق: عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 450:6.
([14]) الصراع المذهبي بإفريقية، ص: 99.
([15]) المدارس الكلامية في إفريقية ، ص: 46.
([16]) مقدمة ابن خلدون، ص: 463.
([17]) المناظرة في أصول التشريع الإسلامي، مصطفى الوظيفي، مطبعة فضالة، 1998، ص: 21.
([18]) وردت رسالة ابن حزم في الرد على ابن الغزيلة ضمن رسائل ابن حزم.
([19]) البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ابن عذارى المراكشي، ابن عذارى، دار الغرب الإسلامي، 1985 264:3.
([20]) البيان المغرب 276:3.
([21]) الإسلام والمسيحية، جورافسكي، ترجمة: د خلف الله محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1996، ص: 46.
([22]) انظر كنماذج للاستقطاب والتوظيف العقدي ترجمة عبد الملك بن محمد الضبي، المعروف بابن البرذون، في كتاب: قضاة قرطبة وعلماء إفريقية للخشني (ص:284)، الذي: "غلب عليه حب الدرهم أنداده من كتاب الوثائق، فتشرق وافتخر بذلك. وانظر كذلك ترجمة قاسم بن خلاد الواسطي الذي تشرق بعدما وعد بشغل منصب القضاء، المصدر السابق، ص: 292.
([23]) القوى السنية في المغرب، محمد أحمد عبد المولى، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1985، ص: 671.
([24]) القوى السنية في المغرب، محمد أحمد عبد المولى، ص: 683.
([25]) الصراع المذهبي بإفريقية، ص: 99.
([26]) انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة، 120:1، طبقات الحفاظ 281:1.
([27]) أبجد العلوم: صديق بن حسن القنوجي 3/159.
([28]) الصراع المذهبي بإفريقية، ص: 67.
([29]) صورة من التواصل التاريخي بين دول الخليج العربي والدول المغاربية، إبراهيم حركات، مجلة التاريخ العربي، العدد 3، صيف 1999، ص: 19.
([30]) عن المذاهب الإسلامية في الأندلس، عمر الجيدي، مجلة المناهل، العدد 40، شتنبر 199،ص: 109
([31]) تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية، ص : 155.
([32]) الصراع المذهبي بإفريقية، ص: 22
([33]) المدارس الكلامية بإفريقية، ص: 34.
([34]) البيان المغرب، 48:1 وانظر أسماء الفقهاء العشرة في : رياض النفوس 64:1.
([35]) تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية، ص: 155.
([36]) الكامل في التاريخ 450:6، ووردت العبارة في نص الوصية التي أوصى بها أبو الشلعلع إلى أرض المغرب لنشر الدعوة الشيعية.
([37]) المدارس الكلامية بإفريقية، ص: 81.
([38]) نفح الطيب 221.1.
([39]) انظر: نفح الطيب 5:2.
([40]) فنون النثر الأدبي في الأندلس، مصطفى الزباخ، الدار العالمية للطباعة، 1987،ص: 37.
([41]) مقدمة ابن خلدون، ص: 449.
([42]) نفح الطيب 190:3.
([43]) تاريخ فلسفة الإسلام، ص: 166.
([44]) تاريخ فلسفة الإسلام، ص: 166-167.
([45]) نفح الطيب 222:1.
([46]) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام الشنتريني، 12:1/1.
([47]) الرحلات بين المشرق والأندلس، محمود علي مكي، مجلة البينة، السنة الأولى، العدد الثاني، 1962، ص: 43.
([48]) عن المذاهب الإسلامية في الأندلس، عمر الجيدي، مجلة المناهل، العدد 40، شتنبر 1992، ص: 11.
([49]) الرحلات بين المشرق والأندلس، محمود علي مكي، مجلة البينة، السنة الأولى، العدد الثاني، 1962، ص:42.
([50]) تاريخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين، إحسان عباس، ص: 57-58.
([51]) طبقات المشايخ، الدرجيني: 1: 56-57.
([52]) انظر: قضاة قرطبة وعلماء إفريقية، الخشني، ص: 252.
([53]) تاريخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين، إحسان عباس، ص: 59.
Buscar:
Contexto
Descargar
Todas
Imágenes
Non-profit publishing model to preserve the academic and open nature of scientific communication
Scientific article viewer generated from XML JATS4R