Servicios
Descargas
Buscar
Idiomas
P. Completa
Adab as-suǧūn wa-tadāˁiyāt aṯ-ṯawra as-sūriyya: al-iltizām al-mutaǧaddid [“La narrativa carcelaria y las repercusiones de la revolución siria: El compromiso renovado”]
إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا
إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا
Adab as-suǧūn wa-tadāˁiyāt aṯ-ṯawra as-sūriyya: al-iltizām al-mutaǧaddid [“La narrativa carcelaria y las repercusiones de la revolución siria: El compromiso renovado”]
Al-Andalus Magreb, no. 22, pp. 169-182, 2015
Universidad de Cádiz
resúmenes
secciones
referencias
imágenes

ملخص: تتميز "أدبيات السجون" بحضور قوي في الرواية العربية الحديثة، لاسيما بالدول التي عانت من أنظمة عسكرية استبدادية كما هو الحال في سورية. وأدت الثورة المندلعة سنة 2011 وما تلاها من نزاعات مسلحة إلى شيوع هذا النوع من الأعمال الأدبية، في إطار متجدد لعموميات الالتزام الفني. إن هذه المؤلفات تسعى إلى وضع الواقع المجرد في محور الإبداع الأدبي من خلال عملية البوح واستنادا إلى تقنيات أسلوبية متنوعة. ومما يسترعي اهتمامنا استعادة الذاكرة من أجل إقحام آلام الماضي في قلب معاناة اليوم.

الكلمات المفتاحية: أدب السجون,الالتزام الأدبي,الثورة السورية, تقنيات البوح, الترجمة الذاتية.

Resumen: : “La narrativa carcelaria y las repercusiones de la revolución siria: El compromiso renovado”. La llamada “narrativa carcelaria” ha tenido un gran peso específico en la literatura árabe moderna, en especial en países que han sufrido regímenes militares despóticos, como es el caso de Siria. El levantamiento popular de 2011 y el subsiguiente conflicto armado han reactivado la producción de este tipo de obras, dentro de un espectro asimismo renovado de la temática global del compromiso artístico. A través de la evocación en primera persona, y con técnicas estilísticas diversas, estas novelas-diario colocan la realidad en el eje de la creación escrita. Muy sugerente nos parece, en este contexto, la recuperación discursiva de la memoria del sufrimiento pasado para incrustarlo en el persistente padecimiento de hoy.

Palabras clave: Narrativa carcelaria, compromiso literario, revolución siria, técnicas de evocación, autobiografía.

Abstract: : “Prison’s narrative and the implications of the Syrian revolution: The renewed commitment”. The so-called “Prison´s narrative” has had a strong presence in the bulk of Modern Arabic Literature, especially in those countries that had suffered the rule of despotic military regimes, as it is the case of Syria. The popular uprising of 2011 and the ongoing-armed conflict have reactivated the generation of this kind of Works, in the context of the global subject of compromise and commitment in Arts. Throughout the tools of self-evocation and devoted to a large number of expressive techniques, these novels-diaries place reality in the very axis of written invention. What seems to us really suggesting is the recovering of past suffering circumstances in order to insert them in the present state of continuous pain.

Keywords: Prison´s narrative, literary commitment, Syrian Revolution, evocation techniques, autobiography.

Carátula del artículo

Artículos

Adab as-suǧūn wa-tadāˁiyāt aṯ-ṯawra as-sūriyya: al-iltizām al-mutaǧaddid [“La narrativa carcelaria y las repercusiones de la revolución siria: El compromiso renovado”]

إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا
جامعة أوتونوما، مدريد , España
Al-Andalus Magreb
Universidad de Cádiz, España
ISSN-e: 2660-7697
Periodicity: Anual
no. 22, 2015

Published: 30 January 2015


1) سرديات المعتقلات ومستجداتها في ضوء الثورة السورية

يُعد أدب السجون أو المعتقلات من الأنواع الأدبية الأكثر حضورا في الرواية العربية المعاصرة، مما يعكس مدى الاستبداد السياسي الذي لا يزال يطغى على الواقع العربي التعس. وعلى خلاف الموضوعات "التقليدية" المعتادة فإن الحديث عن القمع والملاحقة والقهر ليس حديثا يختاره الكاتب بمنتهى الحرية وإنما هو أمر مفروض على من يريد أن يأخذ على عاتقه مسايرة الواقع الاجتماعي المعيش. ولما كان نظام الحكم البعثي قد اتبع منهجا شرسا جدا فيما يتعلق بالتعامل مع من يخالفه الرأي بغض النظر عن كون ذلك المخالف سياسيا أو فنيا أو مواطنا عاديا فإن ظاهرة الاعتقال لم تلبث أن تحولت منذ أوائل السبعينات إلى أحد المكونات الأساسية للحياة الاجتماعية في سورية. ولقد استفحلت هذه الظاهرة على امتداد الثمانينات من القرن الماضي في أعقاب نشوب الحرب المفتوحة بين النظام السياسي والتيار الإسلامي. فلا غرابة أن تكون سرديات السجن قد بلغت شأوا بعيدا جدا من الإنتاج خلال تلك الفترة أو في الفترات التي تلتها.

إن الثورة السورية المندلعة في مارس/ آذار العام 2011 ولدت ظواهر عديدة على جميع المستويات، إلا أنها أفضت، في ميدان الإبداع الأدبي، إلى تفعيل الرواية ذات الأبعاد السياسية الملتزمة. وبحكم رهان النظام على القمع الجماعي والتمادي في المنهجية المخابراتية المفرطة فإن أدب السجون عاد مجددا إلى الواجهة، خاصة وأن عددا غفيرا من الكتاب انخرط في المسيرة الاحتجاجية. والحقيقة تقال إن هؤلاء الأدباء ذاقوا في أحيان كثيرة أهوال سجون النظام وأساليب التعذيب المعهودة كما ذاقوا أهوال معتقلات المنظمات والأحزاب المعارضة، لاسيما الجهادية منها، التي استولت على جزء من الأراضي السورية بعيد انحراف الثورة إلى نزاع مسلح مزمن تدخل فيه كل من هب ودب.

ومما استرعى انتباهنا في خضم أدبيات السجون السورية قضية هؤلاء الأدباء الذين دونوا ذكريات الحبس أثناء الفترة السابقة لانتفاضة 2011 ثم عادوا إليها (أو قدموا شهادات جديدة ولّدتها ظروف الاضطهاد المتجددة) تعبيرا عن مناصرتهم الشخصية للثورة. وأراد هؤلاء من خلال استذكارنا بتجاربهم المسجلة في المعتقلات المخابراتية، أو عن طريق تدوين رعبهم الماضي الذي لم يرغبوا أو يفكروا في تسجيله إلا في وقت متأخر، أي بعد نشوب الانتفاضة، أرادوا إيصال رسالة أدبية في منتهى الأهمية: إن الأدب يظل وسيلة للتحريك والتوعية والتصدي لظلمات النسيان. ولا شك أن عملية البوح تتبوأ وظيفة أساسية في هذا المضمار إسوة بالتقنيات السردية المباشرة.

فأعمال فرج بيرقدار وياسين الحاج حافظ ومصطفى خليفة وغيرهم من "الأدباء السجناء" ليست سوى مسعى حثيث نحو استذكار "الرعب الذاتي" الذي يعانيه المواطن السوري منذ عقود من الزمن. وتتجسد عملية المقاربة هذه بطرق وأدوات متنوعة تتكئ بالأساس على أبعاد البوح والاستعادة وطاقات الذاكرة التي تجمع بين القدرات التشتتية والتكميلية في آن واحد. وأتت هذه الكتابات الجديدة مرفقة بأنشطة ثقافية أخرى تمتد من الفلم الوثائقي إلى الحوارات المسجلة والرسم. ومما يدل على قوة هذه القدرات الاستذكارية السردية انصراف البعض إلى تدوين ذكرياتهم في السجن بعد مضي سنين طويلة على خروجهم منه وذلك إنصافا للحركة الاحتجاجية الحديثة. وينتسب هؤلاء إلى فئة "المواطنين العديمي الرأي" باعتبارهم أشخاصا غير مرتبطين أصلا بأي دور سياسي أو اجتماعي وهم البعيدون كل البعد عن الكتابة. انظروا حالة الطبيب السوري المغترب براء سراج، مؤلف يومياته "من تدمر إلى هارفرد"، وهو المعترف بأنه أمسك القلم خدمة للثورة السورية، بالرغم من ابتعاده عن عالم الأدب ومجريات السياسة في بلده الأصلي قبل الانتفاضة الشعبية التي حملته على تسجيل ما تعرض له من تعذيب وإذلال في تسعينات القرن الماضي. وربما كان الأهون بالنسبة له الامتناع عن نبش تلك الذكريات الأليمة التي مرت على وقائعها أكثر من عشر سنين.

وتصيب بدون شك مقدمة براء سراج ﻠ"من تدمر إلى هارفرد: رحلة سجين عديم الرأي" لب الموضوع المطروح في متن هذا المقال، حيث أنها تقرّ برغبة المؤلف في تحرير هذه اليوميات في وقت بدأ الشعب السوري انتفاضته على النظام، وبعد مرور ست عشرة سنة على إخلاء سبيله. فقد شرع في تدوينها في شهر آذار/مارس 2011، أي بعد أيام قليلة من انطلاق الشرارة الأولى للثورة، لإحساسه بأنه مدين لشعبه أو رغبة منه "في تصفية الذكريات والمساهمة بطريقة ما في دفع الانتفاضة إلى بر الأمان" (سراج، 2013: 3)

وتلتقي هذه العناوين المستحدثة بعد العام 2011 بأخرى سبقتها وأسست لأدبيات السجن السورية. وتجسد هذه اليوميات والذكريات والروايات ضربا من الشهادة الحية على الانحطاط السياسي والمؤسساتي وهمجية آلية الحكم. وتضاف هذه الأعمال المستندة إلى التجربة المعيشة إلى تلك المؤلفات المستلهمة مما رواه شهود عيان نقلوا فظائع الاعتقال لأدباء محترفين انكبوا فيما بعد على تخطيطها وتأطيرها. لذلك، تنضوي تجربة السجن المستعادة، سواء أكان المعاش منها أو المنقول من روايات السجناء أنفسهم، في سياق عام يسعى إلى تسليط الضوء على فظائع الدكتاتورية العسكرية. وينبغي بنا التذكير بالهوية الحقيقية للنظام السوري إن أردنا أن نحلل بجدية الأسباب الرئيسية لخروج الناس عليه، إذ أن انحراف الثورة عن سكتها الأصلية واقتحام التيارات السلفية الظلامية الساحة وتحول التراب السوري إلى معترك جديد في قلب الشرق الأوسط –على غرار لبنان السبعينات و"حرب الآخرين على أرضنا"-، لا يمكن أن يحجب عنا الحقائق الملموسة.

1) البؤس السياسي العربي وأدبيات الالتزام

الطابع السياسي للرواية العربية الحديثة مرده إلى الظروف التي اكتملت فيها مسيرة الاستقلال من الدول الأوروبية الاستعمارية، فبالتوافق مع تنامي التيارات الفكرية اليسارية والقومية العربية المناهضة ﻠ"الامبريالية الغربية"، تطورت أدبيات عربية خاصة تدعو إلى الالتزام واستخدام الفن وسيلة لتدعيم الحركات التحررية. وتأثرت هذه الأدبيات بالكتابات الماركسية وبأعمال مؤلفين من أمثال فرانز فانون المتكئة على خطاب ثوري يتخذ من الشعب فاعلا ومفعولا لدعواتهم السياسية. كما طبعت نظريات الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بصماتها على هذه التيارات مع تعريفاته لماهية الالتزام الأدبي، إذ يُعدّ الأثر المكتوب واقعة اجتماعيّة، أما الكاتب الملتزم فهو، بالضرورة، "متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطهدين" (سارتر، 1967: 44-45). عكفت هذه الأدبيات على تعرية مظاهر الاستبداد العربي وتجاوزات الطبقات الرجعية الحاكمة الحليفة للغرب، داعية إلى تغيير الأوضاع وتأييداً لظهور مجموعات فكرية نجحت، في آخر المطاف، في الاستيلاء على السلطة عن طريق انقلابات عسكرية اصطلح على تسميتها بالثورات. إلا أن مطالب تمكين الشعب من السلطة وتحقيق المساواة الاجتماعية، وهي من ركائز نظريات الالتزام الثوري، سرعان ما غدت شعارات رنانة، بعد أن تحولت هذه الأنظمة، وقد تمت عسكرتها وتجييرها استخباراتيا، إلى مؤسسة قمعية شوهت المعنى الأصلي للمصطلح، أي "الثورة"، بل أفرغته تماما من فحواه. وإن كان مصطلح (أدب الالتزام)، أو (أدب المواقف) قد برز "نتيجة لتأثير الأيدِيولوجيات الحديثة في الأدب، التي تظهر في شيءٍ واحد، وهو أنها تبرز المتغيرات الاجتماعية السياسية لعصرنا... وتجْبر كل امرئ منا أن يعيد فحصَ موقفه نقدياً من العالم، ومسؤوليّته نحو الآخرين" (أبوريث: 112)، فإن أدبيات الالتزام فقدت وظيفتها بعد تشنج النظام العربي الرسمي سواء أكان يساريا أو يمينيا، أو قل إنها أجبرت على التمويه والمداراة، في أحسن الأحوال، من أجل الاحتفاظ بما تبقى لها من قوة إبداعية.

ونبرز، من ضمن المفكرين العرب المنتسبين إلى اليسار القومي الذين فطنوا مبكرا إلى هذا الانزلاق الخطير، الروائي العراقي-السعودي عبد الرحمن منيف. فهذا الكاتب يثير في كتاباته مسألة علاقة الطبقة الحاكمة العربية الناشئة في ستينات القرن الماضي (الثورية والرجعية على حد سواء) وانحرافها عن الحكم الطبيعي الملتزم والنزيه نحو الاستبداد. وكان منيف نفسه من المحبطين من القومية العربية الزائفة التي بذلت قصارى جهدها من أجل بناء منظومة مؤسساتية تستغل المصطلحات السامية كالالتزام والشعب والمساواة في محاولة لإضفاء الشرعية على سلطتها، ومن ثمة "مصادرة حرية المواطن العربي" (دراج، 2012: 9). وكانت "صرخة" الانقلابات العسكرية التي هزت الشرق الأوسط في الخمسينات والستينات قد استحوذت على اهتمام قائمة طويلة من الكتاب، ومعظمهم من الشيوعيين أو اليساريين القوميين، ومنهم من سار في ركب زملائهم بأمريكا اللاتينية وتقصيهم عن جذور الاستبداد، مثل العراقي زهير الجزائري في "حافة القيامة". أما منيف فقد التزم بفضح أزمة الحكم العربي والتنديد بالنزعة الاستبدادية الملازمة له، ولكن بدون تحديد صريح للمكان والزمان، وذلك ربما لتجنب مصائد الرقابة وتماديا في تعميم ضبابي يفيد غرض "شمولية" النظام النموذجي العربي.

ويقودنا ما سبق ذكره إلى صلب موضوعنا ألا وهو صورة السجن ضمن أدبيات الالتزام باعتبارها أحد المظاهر الرئيسية للجور والظلم، وما دام الاستبداد قائما راسخا فمن المحتم على الصوت الملتزم التنديد به. ويتخذ مفهوم الالتزام عند منيف (والتركيز عليه الآن بصفته أحد رواد أدب السجون العربي) نبرة تحريضية تهدف إلى رفع الستار عن واقع عربي مأسوف له. هكذا، يستحيل السجن في روايات منيف كناية عن المجتمع العربي "الحبس" (دراج، 2012: 20) وإن كانت تجربة الاعتقال فريدة تخص كل شخص، إلا أن ما يهم منيف قبل أي شيء آخر هو رسم المجتمع كوعاء للحبس العام.

إن سلمنا بأحقية التعريف التقليدي الذي يعزو اندفاع السجين إلى تدوين مذكراته إلى نية "ممارسة نوع من المقاومة الثقافية" (Carnochan 1995:381 ) فإن الهدف الذي يعلن عنه سراج صراحة (واتخذ ياسين الحاج نبرة مماثلة في بعض مقالاته وكذلك في مقدمته ﻠ "بالخلاص يا شباب"، حيث يشير إلى الدوافع ذاتها تقريبا لتدوين يومياته "في هذه اللحظة بالذات وليس في لحظة غيرها") يتعدى حدود هذه المقاومة الثقافية بل يتوجه إلى التعبئة السياسية. وألمحت الباحثة سوني هوغبول أثناء قيامها بدراسة ميدانية في دمشق سنة 2007 إلى ميل السجناء السابقين إلى الحديث بإسهاب عن فظائع السجن في سبيل التشديد على شرعية العصيان على نظام غاشم يتفنن في ألوان التعذيب والعقاب. وجاءت تلك الروايات مرصعة في خطاب مفعم بالحيوية ويصبو إلى التحرر من عقدة الضحية والعجز والاستسلام (Haugbølle, 2011: 237-238 ). على هذا الصعيد، نلفي أعمالا أدبية واكبت الثورة السورية وناصرتها وهي تستلهم مواضيعها، أو قسما منها على الأقل، من سرديات السجن ومراكز الاعتقال. ثمة من اعتمد على شهادات أفراد ذاقوا مرارتها في الماضي، مثل "حمام زنوبيا" للصحافي المنفي في فرنسا رياض معسعس أو "كمن يشهد موته" لمحمد ديب، المنشورة في 2014 والمبنية على شهادات مختلفة بأسلوب مباشر مقتضب يجاري طبيعة نبض الثورة الهائج (وتعرض المؤلف نفسه للاعتقال بعيد بداية الثورة)، أو "وجوه من سوريا" لهيفاء بيطار، و"طبول الحب" لمها حسن في 2012 وكذلك، في العام ذاته، "تقاطع نيران" لسمر يزبك حيث تشير المؤلفة إلى احتكاك عابر لها بمقرات المخابرات. وتشكل هذه الأعمال تواصلا لديمومة موضوع السجن عند مؤلفين تناولوا المسألة نفسها من قريب أو من بعيد كروزا ياسين حسن في "نيغاتيف. من ذاكرة المعتقلات السياسيات" (2008) و"حراس الهوى" (2009)، وتركز فيهما على مصائب النساء السجينات ثم زوجات الناشطين المعتقلين، وخالد خليفة الذي لا تتوقف رواياته الشهيرة على مسألة السجن بالذات ولكن على أجواء البطش والقهر السياسي في الماضي القريب، كما في "مديح الكراهية" (2008) و "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" (2013)، حيث يحدثنا في كليهما عن أحوال عائلة تعايش عن كثب أبعاد البطش وأحداثا دامية كمجزرة حماة في الثمانينات.

2) أدبيات السجون العربية ومواردها السورية

تنعم سرديات السجون بمكانة بارزة في الرواية العربية المعاصرة فقائمة الكتب التي تتناول أهوال الحبس المديدة تكاد لا تحصى. ولا يخلو بلد عربي من رواية "مفتاحية" في هذا المضمار، ومعظمها من تأليف مثقفين يساريين ذاقوا مرارة الاعتقال في شبابهم ثمّ نالوا قدرا كبيرا أو متوسطا من الشهرة مع نضوج مسيرتهم الأدبية. وقرر عدد منهم تدوين ذكرياتهم السجنية في يوميات ترتقي في معظم الأحيان إلى التجربة الروائية كالمصري صنع الله إبراهيم وكتابته عن معتقلات عبد الناصر، أو مواطنته نوال السعداوي ومذكراتها الشهيرة عن فترة السادات، غير أنّ العمل المرجعي في هذا المجال، وهو في الوقت ذاته من الروايات العربية الحديثة الأكثر صدى، هو "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف السابق الذكر. فهو المسؤول الرئيس عن تأصيل "أدب السجون" في قالب أدبي ذي سمات تعكس تقنيات سردية وحبكة أسلوبية مرهفة. والملفت للنظر في كتاب منيف هذا وفي جزئه الثاني (والأكثر سماكة والأقل جودة) "الآن هنا... أو شرق المتوسط مرة أخرى" (1991)، أن الحكاية لا تعكس معاناة المؤلف الشخصية إذ أنّ منيف، وبالرغم من معاركه السياسية الطاحنة وارتباطه المبكر باليسار القومي العربي وما نتج عنه من تجريده من جنسيته السعودية الأصلية ثم تخاصمه مع نظام صدام حسين البعثي واعتصامه في دمشق حيث توفي سنة 2004، لم يزج به في غياهب السجون العربية السيئة الذكر حتى يتسنى له الكتابة بصيغة المتكلم عن واقع الاعتقال.

الأمر ذاته ينطبق على ممدوح عدوان الأديب السوري المعطاء شعرا ومسرحا في مؤلفه "حيونة الإنسان" (2007)، وتعدّ من أهم الروايات الصادرة مؤخرا في موضوع التسلط وقمع الحريات الفردية والجماعية. وفي المغرب العربي لا بد أن نذكر أعمالا أدبية أخرى تمزج بين التخييل الأدبي وشهادات السجناء كـ"معذبتي" لسالم حميش (2010) أو "تلك العتمة الباهرة" (2000) للطاهر بن جلون (المترجمة عن الفرنسية) ويروي فيها قصة الضابط المغربي عزيز بنين المتورط في محاولة اغتيال الملك الحسن الثاني في الصخيرات سنة 1971 والمحبوس إبان 18 سنة في معتقل تازمامارت، أحد المعتقلات العربية الشهيرة مع تدمر السورية وطرة في مصر وأبي غريب في العراق المحتلّ. وينأى بنجلون بنفسه عن الخيال والتطعيم السردي فيتفرغ للموضوع وهو توثيق معاناة ذلك السجين. ولكن صيغة "اليوميات بالتفويض أو النيابة" تسهم في نزع قدر كبير من الوقع المباشر عن هذه الرواية وإن كانت المسميات والوقائع مذكورة بصورة صريحة.

ولنسمح لأنفسنا، عطفا على ما سبق وبخصوص إنتاج ابن جلون وغيره، بتقييم مثل هذه التجارب "غير المعيشة". في نظرنا، تتخبط بعض الروايات المنسوبة بحق أو بدونه إلى أدبيات السجون، بهالة الضباب والتعتيم أو "الابتعاد الذاتي" وذلك لأنها قررت، بشكل أو آخر، الابتعاد جزئيا عن الواقع المر. ويتعلق الأمر كذلك بقضية التخييل والعنصر الإبداعي فكلما امتنع المؤلف عن تشخيص المكان والزمان والتهرب من تزويد القارئ بالمسميات الدقيقة والإكثار من عناصر الخيال أو "التصرف"، يترك الباب موارباً للاستنباط والتخمين والتوصل إلى استنتاجات قد تبدو مضللة أو غير صائبة. وربما تنضوي هذه الظاهرة في العلاقة الإشكالية للأدب العربي المعاصر بالمكان وقلة الاهتمام به بالقياس إلى الاكتراث الصريح "للزمن والشخصيات والسرد" (صالح، 1997: 12). ومن نافلة القول إن المكان يؤدي دورا رئيسيا في مفهوم الالتزام الأدبي المرتبط أشد الارتباط بالواقع، فما بالكم بمركز الاعتقال في مثل هذه الروايات.

وأكثر من ذلك فإن المكان-السجن قد يتحول إلى الحدث الأساس أو البطل الحقيقي للحكاية برمتها، إلا أن الرقابة الشديدة المفروضة من الدولة على أي بادرة انتقادية يُلزم الكاتب بالاستقرار على بر "الـ لا مكان"، وهي ربما حالة المسرحي السوري سعد الله ونوس حين لجأ إلى مناورة تشخيص الطغيان الراهن من خلال مسرحيات تجري وقائعها في العصور الوسطى. على هذا النحو، تختزل "شرق المتوسط" منظومة الاعتقال العربية أو الشرق أوسطية و، بالتحديد، آلية التعذيب بمفهوم الشمولية القومية العسكرية. والملفت للنظر أن الكتاب شهد النور في سورية حيث تم توزيعه بصورة طبيعية دون مانع يذكر، مع أن الأحداث الموصوفة فيها تتطابق تماما مع سياسات نظام حافظ الأسد. وليس هذا السرد في الآخر سوى تصنيف لانزلاق الحكومات القومية العسكرية نحو العنف بسبب هواجسه الأمنية وانكبابه على تعزيز فعالية إرهاصاته الاستخباراتية (Picard, 1993 ). وللمفارقة أيضا أنّ الضبابية التعميمية جعلت البعض يحسب الأحوال المأساوية المعروضة في الكتاب وصفا للدكتاتورية البعثية في العراق، النظام العدو لنقيضه السوري، لأنّ الدولة السورية لم تكن لتأذن بصدور مثل هذه الرواية لو كانت قد أحست بأنها ترمز إليها! ويصلح التوصيف نفسه لـ"حيونة الإنسان" حيث يجري الحديث عن التصادم بين نظام علماني وعناصر معارضة متدينة وليس من الشاق على القارئ أن يتلمس أصداء مواجهات الجيش مع الإخوان المسلمين في الثمانينات، وما تناقلته العامة عن أهوال المعتقلات الخاضعة لأجهزة الدولة المتعددة. ومع ذلك، نُشر كتاب عدوان في سورية لأنه هو الآخر يعزف على وتر "الوضع العربي المتردي" وليس الوضع السوري المتردي بالتحديد. ولا نباعد الحقيقة إن أضفنا رواية بنسالم حميش ("معذبتي") إلى طائفة الأعمال التعميمية التي يمكن أن تنسحب على جميع الدول العربية دون أن تفوتنا أنها تود، ربما، التلميح إلى دولة واحدة.

3) الالتزام الأدبي والمعتقلات وقدرات البوح

سبق أن رأينا نسبة من أدبيات الحبس تتخطب بالتعميمية، ولم تسلم منها في الغالب إلا المذكرات التي تعكس التجربة الخاصة للمؤلف. غير أن عددا من الروايات-الشهادة تفتقر بدورها إلى المتانة السردية والجماليات الأسلوبية. وقد يكون مرد هذا الافتقار إلى عدم ارتباط مؤلفيها بحرفة الكتابة. وإن بدا للمرء أن منتوج أدب السجون السوري وفير جدا يشمل عشرات الأعمال إلا أنه، كما يؤكد الكاتب ياسين الحاج صالح وهو ممن أثرى هذا النوع الأدبي، "لم يفِ (ما كتب عن السجن السوري حتى اليوم) التجربة حقها: سجن ألوف ومر بتجربة السجن عشرات الآلاف ولم يكتب وينشر غير بضعة كتب" (الحاج صالح، 2012: 116-117). مع ذلك، تطول قائمة الأعمال الأدبية من الرواية إلى الشعر مرورا باليوميات والمذكرات والمسرحيات التي تتناول المسألة وتناهز الخمسين عملاً (ماريو: 2012).

وفعلا، يصل عدد المواطنين السوريين الذين تعرضوا للاعتقال منذ 1963 إلى مئات الآلاف وهو عدد تضاعف في أعقاب ثورة 2011 ولا يضاهيها في المنطقة سوى نتاج الاعتقال المسجل في فلسطين المحتلة على يدي نظام تل أبيب. ويطرح الحاج صالح نفسه الأسباب الكامنة وراء هذا التقاعس، على رأسها "إيديولوجية السجن" أو نزعة المعتقل إلى إنكار ذاته. وكان عدد الأفراد القابعين في السجون السورية يربو على عشرة آلاف وخمسمائة في سنة 2004 (Khalili & Schwedler, 2010: 39 ). وحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، لقي 2100 شخص حتفهم في السجون السورية أثناء العام 2014 وهو رقم من المرجح ألا يعبر عن واقع المأساة لعدم توفر معلومات موضوعية دقيقة عن عمليات التعذيب هناك (انظر المرصد السوري لحقوق الإنسان، 2015).

ولكن المحصلة الإجمالية لسجناء الرأي في سورية إبّان الستين سنة الماضية لا يزال قيد المجهول نظراً للصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والتي تخولها احتجاز المواطنين بدون أمر قضائي أو إنباء أحد. وهكذا، تحول النهج الأمني في سورية إلى منظومة تأديبية رقابية لا تهدف إلى ضمان قدرة الدولة على التدخل لصالح المواطن وحمايته وإنما بهدف رعاية مصالح النخبة الحاكمة والحيلولة دون نمو أي بديل سياسي أو إيديولوجي يهددها، وهي المنظومة السائدة في الأنظمة الشمولية التي تضرب عرض الحائط بأولويات المواطن ومفهوم الرفاهية الاجتماعية (Neocleus, 2000: 115-117 ).

كان لحقبة الاستعمار الفرنسي دور مؤسس في بناء قصة الرعب الاعتقالي في سورية فالنظام العقابي العنيف المعمول به في الشام، وهو في الحقيقة وجه آخر من وجوه الانحطاط الهيكلي الملازم للدولة العربية المعاصرة، تعود أصوله إلى سياسة الدولة المنتدبة من 1920 إلى 1946 وهي فترة زمنية اختصت بفظاظة أمنية ومنهجية مخابراتية محكمة حرص الحكم الفرنسي من خلالها على إحكام سيطرته على جميع أطياف المجتمع السوري (Deep, 2010: 41-43 ). وكان عبد الرحمن منيف قد ركز في أعماله على الدور نفسه وإرهاصاته التطبيقية (دراج، 2012: 29-30). وليس من المفارقة أن يكون معتقل تدمر (البطل دون منازع في كتابات الحبس السورية) مؤسسة تأديبية للعسكريين المخالفين لقوانين الجيش الفرنسي ثم حولها نظام البعث إلى أحد المعتقلات الأكثر تهويلا في الشرق الأوسط! كما قادت ظاهرة "الحبس الاجتماعي" والاستبداد على كافة مستوياته إلى دراسات تحليلية تسعى إلى تفسير بواعثها وتصنيفها وتحديد ملامح "القهر العربي" (حجازي: 2011).

4) المقاربة البرغماتية: من المجازية اليسارية إلى تقريرية الإسلامية

يتضح من خلال التدقيق في أمثلة أدب السجون السوري انقسامه من حيث هوية الراوي السياسية إلى مجموعتين رئيسيتين: أولاها اليسارية وثانيها الإسلامية. ولا غرابة في الأمر لأن النظام السوري شخص اليسار الشيوعي والإسلام السياسي، لاسيما الأخير، عدويه الكبيرين. وتتميز أعمال فرج بيرقدار وصالح ياسين ومصطفى خليفة ومعهم مي الحافظ وحسيبة عبد الرحمن (والاثنتان من حزب العمل الشيوعي) وعماد شيحة (المنظمة الشيوعية العربية)، حديثة مراد ومحمد علي الأتاسي بالصبغة السيرذاتية والرغبة في نقل حقيقة مأساتهم، ولكنهم حريصون في الوقت ذاته على إغنائها بالعناصر الأدبية التعبيرية الجمالية. وهنا يبرز عمل آرام كرابيت ("رحلة إلى المجهول في سجون البعث"، 2010) إذ "يتعدى الكتاب النزعة الإشهادية لتكون عملا إبداعيا تتوفر فيه الخصائص الفنية والجمالية والدلالية" (حيان: 2010). ويهمنا هنا أن نزيد أن هذا المؤلف، العضو في الحزب الشيوعي-المكتب السياسي، تأخر سنين طويلة في إصدار الكتاب لأسباب شخصية وصحية فكلفه التعافي من مخلفات السجن الجسدية والنفسية والاجتماعية سنين عدة قبل أن يجهز نفسه للتدوين. ويسعى هؤلاء إلى تجنب المباشرة والتقرير التجريدي ثم إضفاء النزعة الفكاهية السوداء والتقنيات الروائية الحديثة ككتاب مصطفى خليفة المعنون بـ"القوقعة" وهي قمة روايات السجون السورية في نظر جل النقاد والقراء بل من بين أفضل الروايات العربية المدونة في العشرين سنة الأخيرة. وينبغي كذلك الالتفات إلى "موت مشتهى" (2005) لعماد شيحة البعيد عن المباشرة واللغة التقريرية.

في المقابل، نلفي الإنتاج الإسلامي محكوما بضرورة الشهادة والتوثيق والتفصيل في تقديم المعلومات والأسماء إن أمكن والتأكيد في الوقت ذاته على معقتداتهم الدينية وشرعية كفاحهم. وكما يشير الحاج صالح: "الإسلاميون الذين تعرضوا للوجه الأشدّ فظاعة من تجربة السجن مقلون في الكتابة، وإن كتبوا فهي كتابات توظيفية هدفها فضح النظام ومناصرة قضيتهم (الحاج صالح، 2012: 117). فلا ينبغي أن نتناسى أن هذه اليوميات جاءت أيضا لتوثيق أسماء "الإخوة" (مرادف "الرفاق" عند اليساريين) المحتجزين وشد أزرهم. ثم وإعطاء بيانات دقيقة عن المعتقلات العسكرية، ولذلك يحوي بعضها ("من تدمر إلى هارفرد" و"حمامات الدم في سجن تدمر" على سبيل المثال) مخططات لمنشأ المعتقل أو يضمن سجلا بأسماء الشهداء (سليم حماد، 1992: 230-239). ومما يعزز من أهمية هذه الأعمال التوثيقية توزعها على مواقع الجماعات الإسلامية السورية. ونلمس هذه الحمية التقريرية في سرديات أخرى غير إسلامية على غرار "عائد من جهنم" (2012) لعلي أبو دهن، رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية (ولا مناص من التذكير بأن آلة الحبس البعثية شملت المواطنين اللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين والعراقيين وغيرهم الكثير)، ولا نعتقد أن المسألة تتعلق بموقف مسبق من ماهية النشاط الأدبي والإبداع ولا بمدى حساسية هذا الكاتب أو ذاك وإرهافه، وإنما بعنصر بسيط جدا ألا وهو مدى ارتباط المرء بمهنة الكتابة. فكان عدد غير يسير من السجناء اليساريين معطاء في إنتاج المقالات والشعر والرواية، أو كانوا صحافيين ومترجمين وأساتذة جامعيين، في حين ينتسب المحبوسون الإسلاميون في الغالب إلى مجالات لا علاقة لها بالكتابة الأدبية أو الصحافية أو الأكاديمية. ويشدد مقدم كتاب عبد الله الناجي المنتسب إلى الإخوان المسلمين ("حمامامت الدم في سجن تدمر العسكري الصحراوي") على خاصية هؤلاء المؤلفين غير المحترفين حين يؤكد "فالذي كتب هذه الذكريات أو المذكرات (يقصد الناجي) عن سجن تدمر بعيد من مهنة الكتابة، فلا تزويق ولا تنميق، بل عبارات وجمل تحمل أحاسيس ملتهبة، من خلال سرد وقائع يعجب المرء لوقوعها على أيدي ناس". (الناجي: 1992). وعلاوة على سراج والناجي المذكورين نجد خالد فيصل ("سنتان في سجن تدمر العسكري الصحراوي") ومجموعته الوثائقية ("تدمر المجزرة المستمرة"، 1984) وشهادة الأردني محمد سليم حماد ("تدمر، شاهد ومشهود"، 1992)، وجلّهم من النشطاء أو المتعاطفين مع الجماعات الإسلامية. ولا غرابة أن تركز يوميات هؤلاء على مآسي الإسلاميين في تدمر حيث قتل الآلاف منهم جراء التعذيب والمرض والشنق أو إطلاق النار الجماعي.

وبالرغم من وجود مؤلفات إسلامية ذات طبيعة أدبية فنية متميزة إلا أن السجناء اليساريين أكثر تجريبا وتحديثا في المجال الفني، بل هناك من استغل مكوثه الطويل في الحبس للتعمق في الجماليات الإبداعية، شأن رياض الترك "مانديلا سورية" الذي أخذ يرسم اللوحات ويقرض الشعر في زنزانته. وخصص له السجين اليساري هو الآخر محمد علي سالم الأتاسي مقالا مطولا نشر في الصحافة اللبنانية بعد الإفراج عن كليهما (الأتاسي، 2004). وكان الأتاسي نفسه قد أخرج فلما وثائقيا عن الترك عنوانه "ابن العم" في 2001. وهناك عامل إضافي يفسر غلبة الطابع الأدبي عند السجناء اليساريين وهو، علاوة على خلفيتهم الثقافية، "رفاهية" أوضاعهم المعيشية في الحبس بالقياس إلى أحوال الإسلاميين، إذ نصادف كثيرا من شهادات السجناء اليساريين تشير إشارة صريحة إلى أنشطتهم الثقافية داخل المعتقل والسماح لهم بالقراءة وحتى الكتابة في بعض الأحيان، وهي خصائص لم ينعم بها الإسلاميون في الغالب.

5) استعادة معاناة الأمس من خلال آلام الحاضر: النمطية التقريرية

من يقرأ يوميات الاعتقال السوري يسهل عليه أن يجد في جل أمثلتها عوامل مشتركة تدل على أحادية التجربة المدمرة ومتانة آلية التعذيب العالية المستوى التي تتعامل معها النخبة المسيطرة على مقاليد الحكم. وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الإحساس بـ"الأسطوانة المشروخة" أو الحكاية المعادة باستمرار. لذلك، ليس من النادر وقوفنا على آراء مثل الرأي التالي وقد عبر عنه أحد القراء وهو يتحدث عن "معذبتي" السابقة الذكر (عاطف، 2011): "الرواية خيبت أملي..تبدو لي أن جميع الروايات التي تنضوي تحت أدب السجون في عالمنا العربي هي روايات متشابهة جدا!!! لدرجة أنني وأنا أقرأ أتوقع ماذا سأجد... نفس طرق التعذيب... نفس المعتقلات... نفس السجانين وعباراتهم المهينة حتى التهمة هي نفسها !! والسجين دائما مظلوم يراد منه أن يوقع على أوراق ما أو يشي بمن يعرفهم. .. حسنا أعتقد أنه من الأفضل أن يتوقف هذا النوع من الكتابة في عالمنا العربي لأنه أصبح متشابها جدا!!".

أجل، ينتابنا شعور مماثل في مناسبات غير قليلة ونحن نتصفح أعمالا تنسب إلى "أدب السجون"، بيد أن القضية لا تغدو أن تكون منطقية وضرورية لأنّ معاناة الحبس لا بد أن تكون واحدة، أو متماثلة على الأقل، في معظم الأحوال. وبصرف النظر عن الصبغة التخييلية الروائية وصيغة الغائب اللتين تطغيان على رواية بن سالم حميش بالتحديد (نقصد "معذبتي")، إذ بنيت على أساس شهادات وتقارير تلقاها المؤلف وليس بناء على تجربته الخاصة، فإنّ عالم الحبس في سوريا ينفرد بمكونات مُوحدة تعيد نفسها بشكل مستمر. وصحيح كما يضيف القارئ نفسه (وينم تذمره بالحقيقة عن تذمر عدد غير قليل من القراء إزاء ما يرونها رتابة نمطية في مثل هذه الأعمال) بأن "الرواية ليست سباقا يبدأ بنقطة البداية ويتسارع إلى أن تصل لنقطة النهاية... الرواية هي نزهة غير معروف مسارها" بل حافلة بـ"المطبات" (عاطف، 2011). ومع الإقرار بأن رواية السجن السورية ما زالت ترزح تحت وزر ما سماه الحاج صالح "التوظيفية والحزبية"، ومن هنا الطابع التقريري والحبكة النموذجية المتأسسة على اليوميات المجردة، فإن هناك استثناءات عدة تخولنا اعتبار هذا النوع الأدبي نوعا ذا قيمة إبداعية لا يستهان بها. ومرة أخرى وجب علينا أن نخص بالذكر "القوقعة" و"بالخلاص يا شباب" و"خيانات اللغة والصمت". ولما كانت الإقامة في المعتقلات السورية مسيرة نعرف مسبقا بدايتها ونهايتها لاسيما إذا كان اسم السجن "تدمر"، فإن عملية الاستعادة والبوح وتجسيد الأهوال المعيشة عن طريق الأنا المتسلطة يمكن أن توازن بين التفصيل التوثيقي والتجديد الروائي، أي بين المذكرات المحضة والإبداع الأدبي المنفتح على كل الاحتمالات.

6) مقومات رواية الحبس: من "الطماشة" إلى "ابتلاع الفئران"

تقتسم هذه الروايات سواء أكانت يسارية المنشأ أو إسلامية أو غير مسيسة مقومات ذات مواضيع متميزة تجعلها تتقاسم التجربة نفسها تقريبا. وتعكف هذه الأعمال أكثر ما تعكف على استعادة إنسانية الأسير الذي يتشيأ فيصير رقما مجردا. ونجد في سرديات تدمر كافة حديثا مسهبا عن "السجين رقم ***". ونحس بنية الاستعادة ذاتها في كتابات ما بعد الثورة وهي تبذل جهدها من أجل تصنيف أسماء الشهداء وتبيين ظروفهم وترتيب قصصهم ومن شارك في قتلهم أو أمر به، وهل تم اغتيالهم في الحبس أو في إحدى المظاهرات أو في غارة جوية وهلم جرا. كما يحتل "حفل الاستقبال"، لاسيما في سجن تدمر "باستيل سورية" كما سماه عبد الله الناجي، مكانة بارزة في هيكل هذه الأعمال، وترمز إلى جلسة التعذيب (الجماعية) الأولى التي يكرم بها الضيف الجديد فور نزوله ورفاقه من الشاحنة القادمة بدورها من السجون الأخرى (المزة، عدرا، صيدنايا وإلخ)، وهي سجون تنال هي الأخرى نصيبها من النجومية في أدبيات الاعتقال السورية. ويخضع السجين للضرب المبرح بالعصي والأسلاك على أيدي الحراس المصطفين في فناء المنشأ. كما كرست هذه الحكايات مفردة "الطماشة" أي العصابة أو الغمامة الموضوعة على عيني الشخص لمنعه من رؤية وجوه جلاديه أو معرفة مكان احتجازه. ولا يسعنا التغاضي عن حادثة "أكلة الفأرة"، أي إكراه السجين على ابتلاع الفئران أمام الملأ، وهو مشهد نجده في الروايات التدمرية التي تشكل قسما منفردا ضمن جنس أدبيات الحبس السوري، وترتقي أوصاف مصطفى خليفة في "القوقعة" بهذا الخصوص إلى مستويات تعبيرية بديعة. وتُعد "الكلبشات الإسبانية" من المعدات المفضلة لدى الجلادين، في حين تسجل المذكرات السباب والشتائم التي يتلفظ بها هؤلاء وتسجل بالعامية وهي وحشية دائما ولكنها لا تخلو من الفكاهة في مشاهد معينة.

وقبل الزج بهم في المحتجز يذكر الكل ظروف اعتقالهم وكلمات أفراد المخابرات ("خمس دقائق ثم تعودين بالسلامة إلى البيت") ، كما في "خمس دقائق وحسب. تسع سنوات في سجون الأسد" لهبة الدباغ، الشابة المتهمة بالانتماء إلى الإخوان المسلمين (1990)، أو "ما تخافي، ساعة بيشرب فنجان قهوة عندنا برجعلك إياه"، في "عائد من جهنم" لأبي دهن اللبناني –وهي العبارة التي يوجهها العميل للزوجة لطمأنتها-، ثم تطول "الوقفة" عشر سنين أو أكثر. وحادثة الاعتقال الغامضة التي تزيد من حيرة السجين لاسيما وأنه يكاد لا يعرف سبب احتجازه سمة هي الأخرى تتصف بها هذه السرديات، وكذلك بقاؤهم مدة سنوات مديدة بدون محاكمة أو توجيه تهمة معينة إليهم. ونجح مصطفى خليفة في إدخال عناصر فكاهية مهما كان الأمر مأساويا بواسطة مقومات تلامس ربوع اللامعقول على غرار إدانته بالانتساب للإخوان المسلمين وهو المسيحي اليساري الإتجاه (مصطفى خليفة، 2008). أو العزف على وتر العبثية والاعتباطية وسخرية الأقدار كما في حالة الفلسطينية مي الحافظ ("عينك على السفينة"، 2006)، التي ألقي عليها القبض ثلاث مرات متتالية لمجرد تصادفها مع أشخاص مطلوبين للمخابرات.

7) أدب المعتقلات وطاقات البوح: الإبداع والشهادة

تجسد نهضة سرديات السجون والسياسية بصورة عامة الحالة السورية الكارثية اليوم وقبله، عن طريق الاستعادة والبوح المسترجع بصفتها الوسيلة المثلى لمساندة النزعة التحريرية النزيهة وإضفاء شرعية الوجوب عليها. فذاكرة المواطن الطيب المسالم سواء أكان أديبا أو لم يكن، قد تكون ضعيفة وهشة أو مفككة –وهنا يؤدي البوح دورا قد يزيد من التشتيت أو التجميع بمفهوم رولان بارت-، وكذلك قد تكون تلك الذاكرة عاجزة عن إيجاد الكلمات المناسبة والدالّات والمدلولات المرغوب فيها، ولكنها مهمة لا مناص منها، لاسيما وأن الجريمة، على حد تعبير وليام شكسبير، دائما تعبّر عن نفسها بفصاحة لا يضاهيها أي خطاب. وكان مصطفى خليفة يتعجب وهو المنقول من جحيم تدمر إلى معتقل آخر "أكثر أريحية" من لا مبالاة الناس –"تُرى كم واحدا منهم يعرف ماذا جرى ويجري في السجن الصحراوي؟ ترى كم واحدا منهم يهتمّ؟ أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون؟... ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده؟" (خليفة، 2008: 278). ولكنه ربما يحدس التطورات الجذرية التي كانت ستحدث بعد سنوات من خروجه النهائي من معتقلات المخابرات السورية. وإن كانت الثورة الشعبية في بلاد الشام قد خرجت عن سكتها الطبيعية لأسباب تنمّ للمرة الألف عن وقاحة السياسة الإقليمية والدولية وتلاعب المصالح الكبرى ثم التناقضات الاجتماعية السورية ذاتها، فإن استعادة مأساة المواطن السوري الأعزل تظل تتحدث عن نفسها بقوة لا يخورها أي استكبار. بل أكثر من ذلك فإن مهمة الأديب الشاهد على الدمار المادي والأخلاقي تتجلى اليوم كما في الماضي في التعبير عن الواقع المر بالقالب الأدبي المبتعد عن الكلام المبذول "الارتيادي"، لدرجة أن الخطاب والكلمة يتقاطعان عند تماسات ترتقي بمفهوم الالتزام إلى جماليات وظائفية تتعدى حدود الإدانة. فكما كتب الشاعر فرج بيرقدار "أعتقد أن ما تقدَّم أو بعضه، يجعل الدعوة لدحر الديكتاتورية واجباً إنسانياً عاماً وشخصياً وحزبياً، وهذا ما فعلناه كحزب عندما رفعنا شعار دحر الديكتاتورية، وهذا ما أفعله شخصياً الآن" (فرج بيرقدار، خيانات اللغة والصمت، ص. 142).

Supplementary material
المصادر والمراجع: باللغة العربية:
أبو دهن، علي، عائد من جهنم. ذكريات من تدمر وأخواته، بيروت، التوثيق والأبحاث، 2012.
الأتاسي، محمد علي، السجن الآخر، جريدة النهار، 2004.
أوبريث، ماكس، في النقد والأدب، ترجمة عبد الحميد شيحة، القاهرة، مكتبة النهضة، 1989.
بنسالم حميش، معذبتي، دار الشروق، 2010.
بيرقدار، فرج، خيانات اللغــة والصمـت، " تغريبتي في سجون المخابرات السورية، بيروت، دار الجديد، 2006.
الجزائري، زهير، حافة القيامة، بيروت، دار المدى، 1998.
الحافظ، مي، عينك على السفينة، على نفقة المؤلفة وتوزيعها، (2006) .
حجازي، مصفطى، التخلف السياسي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2011.
حسن، مها، طبول الحب، بيروت، دار رياض الريس/الكوكب، 2012.
حيان سمان، محمد، سواطير النار. قراءة في رحلة إلى المجهول في سجون البعث، 2010، متوفر في: https://www.zamanalwsl.net/readNews.php?id=21966
الدباغ، هبة، خمس دقائق وحسب، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، 1998.
دراج، فيصل، عبد الرحمن منيف ورواية الالتزام، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001.
ديبو، محمد، كمن يشهد موته، بيروت، بيت المواطن، 2014.
سارتر، جان بول، الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، بيروت، 1967.
سليم حماد، محمد، تدمر، شاهد ومشهود، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، 1992.
شيحة، عماد، موت مشتهى، دمشق، دار السوسن، 2005.
صالح، صلاح، قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر، القاهرة، دار شرقيات، 1997.
عـــاطـــف، خـــــــلـــــــود، رأيـــــي فـــي روايــــــة مـــــعـــــذبــــــتــــــي لـــــبـــــنـــــســـــالـــــم حـــمـــيـــش، مــــتــــوفــــر فــــي: http://www.goodreads.com/book/show/7684640 ، 2011)
عبد الرحمن، حسيبة، الشرنقة، 1999.
عدوان، ممدوح، حيونة الإنسان، دمشق، دار قدمس، 2007.
كرابيت، آرام، رحلة إلى المجهول. في سجون البعث، جدار للثقافة والنشر، 2010.
مرصد حقوق الإنسان السوري، أكثر من 2100، نصفهم من محافظات ريف دمشق وحمص ودرعا استشهدوا تحت التعذيب في معتقلات النظام الأمنية خلال العام 2014، http://www.syriahr.com (تاريخ المراجعة، 10/9/2015).
مــريــو (مــدونـــة)، تــدويــنــة خــمــســيــــن عــمــلا فــي الألم (الــســجــن الــســـوري)، مــتــوفــر فــي: http://mariomondas.blogspot.com.es/2012/10/blog-post.html 2012. (تاريخ المراجعة، 12/7/2015).
المعسعس، رياض، حمام زنوبيا، تونس، دار الجنون، 2013.
الناجي، عبد الله، حمامات الدم في سجن تدمر، 1992، متوفر في: http://www.shrc.org/?p=15307 ، (تاريخ المراجعة: 8/6/2015)
ياسين حسن، روزا، نيغاتيف، القاهرة، 2007/ حراس الهواء، بيروت، الكوكب-رياض الريس، 2009.
باللغة الانكليزية:
Carnochan, W.B., “The Literature of Confinement”, in N. Morris &D. Rothmans (eds.), The Oxford History of the Prison, Oxford University Press, 1998, 381-406.
Cooke, Miriam, Dissident Syria: Making official Arts Official, Durham, NC Duke University Press, 2007.
Haugbølle, Sune, “The Victim´s Tale in Syria. Imprisonment, Individualism, and Liberalism”, in Khalili, pp. 223-240.
Khalili, Laleh & Schwedler, Jillian, Policing and Prisons in the Middle East: Formations of Coercion, Londres, Hurst&Company, 2010.
Morris, Norval and Rothman, (eds.), The Oxford History of Prison, Oxford University Press, 1995.
Neep, Daniel, “Policing the Desert: Coercion, Consent and the Colonial Order in Syria”, in Khalili, pp. 41-56.
Neocleous, Mark, Fabrication of social order. A critical theory of police power, London, Pluto Press, 2000.
Picard, Elizabeth, “State and Society in the Arab World: Towards a New Role of the Security Forces”, in Korany, Noble & Brynen, The Many Faces of National Security in the Arab World, London, Palgrave Macmillan, 1993.
Wedeen, Lisa, Ambiguities of Domination. Politics, Rhetoric and Symbols in Contemporary Syria, The University of Chicago Press, 1999.
Notes
Buscar:
Contexto
Descargar
Todas
Imágenes
Non-profit publishing model to preserve the academic and open nature of scientific communication
Scientific article viewer generated from XML JATS4R